فصل: (سورة المائدة: آية 96)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت: فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله مِنَ النَّعَمِ وهو تفسير للمثل، وبقوله: هديًا بالغ الكعبة؟ قلت: قد خير من أوجب القيمة بين أن يشترى بها هديًا أو طعامًا أو يصوم، كما خير اللَّه تعالى في الآية، فكان قوله: {مِنَ النَّعَمِ} بيانًا للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هديًا فأهداه، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم. على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزى بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أىّ الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير- فإذا كان شيئًا لا نظير له قوّم حينئذ، ثم يخير بين الإطعام والصوم- ففيه نبوّ عما في الآية. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا} كيف خير بين الأشياء الثلاثة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم. وقرأ عبد اللَّه: فجزاؤه مثل ما قتل، وقرئ. فجزاء مثل ما قتل، على الإضافة، وأصله. فجزاء مثل ما قتل، بنصب مثل بمعنى: فعليه أن يجزى مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول: عجبت من ضرب زيد، وقرأ السلمىّ على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل، فجزاء مثل ما قتل، بنصبهما، بمعنى: فليجز جزاء مثل ما قتل. وقرأ الحسن: من النعم، بسكون العين، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه يَحْكُمُ بِهِ بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ حكمان عادلان من المسلمين. قالوا: وفيه دليل على أن المثل القيمة، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة. وعن قبيصة أنه أصاب ظبيًا وهو محرم فسأل عمر، فشاور عبد الرحمن بن عوف، ثم أمره بذبح شاة، فقال قبيصة لصاحبه: واللَّه ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضربًا بالدرّة وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم. قال اللَّه تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن. وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل منكم، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة.
وقيل أراد الإمام هَدْيًا حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة، أو بدل عن مثل فيمن نصبه، أو عن محله فيمن جرّه. ويجوز أن ينتصب حالا عن الضمير في به. ووصف بـ{هديًا بالِغَ الْكَعْبَةِ} لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبى حنيفة، وعند الشافعي في الحرم. فإن قلت: بم يرفع {كَفَّارَةٌ} من ينصب جزاء؟ قلت: يجعلها خبر مبتدإ محذوف، كأنه قيل: أو الواجب عليه كفارة.
أو يقدر: فعليه أن يجزى جزاء أو كفارة. فيعطفها على أن يجزى. وقرئ: أو كفارة طعام مساكين على الإضافة. وهذه الإضافة مبينة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقولك: خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة. وقرأ الأعرج: أو كفارة طعام مساكين. وإنما وحد، لأنه واقع موقع التبيين، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس. وقرئ: أو عدل ذلك، بكسر العين. والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه، كالصوم والإطعام. وعدله ما عدل به في المقدار، ومنه عدلا الحمل، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا، كأن المفتوح تسمية بالمصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذبح ونحوه، ونحوهما الحمل والحمل. وذلِكَ إشارة إلى الطعام صِيامًا تمييز للعدل كقولك: لي مثله رجلا. والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبى حنيفة وأبى يوسف. وعند محمد إلى الحكمين لِيَذُوقَ متعلق بقوله: {فَجَزاءٌ} أى فعليه أن يجازى أو يكفر، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، كقوله تعالى: {فَأَخَذْناهُ أَخْذًا وَبِيلًا} ثقيلا. والطعام الوبيل: الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرمًا وَمَنْ عادَ إلى قتل الصيد وهو محرم بعد نزول النهى فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ينتقم: خبر مبتدإ محذوف تقديره فهو ينتقم اللَّه منه، ولذلك دخلت الفاء. ونحوه {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ} يعنى ينتقم منه في الآخرة. واختلف في وجوب الكفارة على العائد، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن: وجوبها، وعليه عامة العلماء. وعن ابن عباس وشريح: أنه لا كفارة عليه تعلقًا بالظاهر، وأنه لم يذكر الكفارة.

.[سورة المائدة: آية 96]

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}.
صَيْدُ الْبَحْرِ مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وَطَعامُهُ وما يطعم من صيده والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبى حنيفة. وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد منه، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه مَتاعًا لَكُمْ مفعول له، أى أحل لكم تمتيعًا لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} في باب الحال، لأن قوله: {مَتاعًا لَكُمْ} مفعول له مختص بالطعام، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب، يعنى أحل لكم طعامه تمتيعًا لتنائكم يأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزوّدونه قديدًا، كما تزوّد موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام. وقرئ: وطعمه. وصيد البر: ما صيد فيه، وهو ما يفرّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات، كطير الماء عند أبى حنيفة. واختلف فيه فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد، وهو قول عمرو ابن عباس، وعن أبى هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير: أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله، إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رحمه اللَّه، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم اللَّه: لا يباح له ما صيد لأجله. فإن قلت: ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله: صيد البر؟ قلت قد أخذ أبو حنيفة رحمه اللَّه بالمفهوم من قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا} لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم، لأنهم هم المخاطبون فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم، ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنه: وحرّم عليكم صيد البرّ، أى اللَّه عزّ وجلّ. وقرئ {ما دُمْتُمْ} بكسر الدال، فيمن يقول دام يدام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}.
هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضًا يراد به الصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب، و. الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا، وكل نهر كبير بحر، واختلف الناس في معنى قوله: {وطعامه} قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة: «طعامه» كل ما ملح منه وبقي، وتلك صنائع تدخله فترده طعامًا، وإنما الصيد الغريض، وقال قوم {طعامه} ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء، وقال مالك رحمه الله: أنتم تقولون خنزير، ومذهبه إباحته، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال، وهو مذهب مالك، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و«طُعْمه» بضم الطاء وسكون العين دون ألف و{متاعًا} نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعًا تنتفعون به وتأتدمون، و{لكم} يريد حاضري البحر ومدنه، {وللسيارة} المسافرين، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون، والسيارة أهل الأمصار.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.
واختلف العلماء في مقتضي قوله: {وحرم عليكم الصيد البر ما دمتم حرمًا} فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته، فقالو إن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر بصيد ولا أن يأكل صيدًا صيد من أجله ولا من غير أجله، ولحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم، وروي أن عثمان حج وحج معه علي بن أبي طالب فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال علي: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}، وروي أن عثمان استعمل على العروض أبا سفيان بن الحارث فصاد يعاقيب فجعلها في حظيرة فمر به عثمان بن عفان فطبخهن وقدمهن إليه، جاء علي بن أبي طالب فنهاهم عن الأكل، وذكر نحو ما تقدم قال: ثم لما كانوا بمكة أتي عثمان فقيل له هل لك في علي؟ أهدي له تصفيف حمار فهو يأكل منه، فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله التصفيف وقال له: أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له علي: إنه صيد عام أول، وأنا حلال، فليس علي بأكله بأس، وصيد ذلك، يعني اليعاقيب وأنا محرم وذبحن وأنا حرام، وروي مثل قول علي عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى بأسًا للمحرم أن يأكل لحم الصيد الذي صاده الحلال لحلال مثله ولنفسه، وسئل أبو هريرة عن هذه النازلة فأفتى بالإباحة، ثم أخبر عمر بن الخطاب فقال له لو أفتيت بغير هذا لأوجعت رأسك بهذه الدرة، وسأل أبو الشعثاء ابن عمر عن هذه المسألة فقال له، كان عمر يأكله، قال: قلت فأنت؟ قال كان عمر خيرًا مني، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثل قول علي بن أبي طالب، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك، فقال، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم، قال الطبري وقال آخرون: إنما حرم على المحرم أن يصيد، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، اشترى قطًا وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس، ومالك رحمه الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم، فإن صيد من أجله فلا يأكله، وكذلك قال الشافعي، ثم اختلفا إن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه، وقرأ ابن عباس و{حَرَّم} بفتح الحاء والراء مشددة {صيدَ} بنصب الدال {ما دمتم حَرمًا} بفتح الحاء، المعنى وحرم الله عليكم، و{حرمًا} يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه، والمعنى ما دمتم محرمين، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالك رحمه الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه: وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في المدونة، فإنه قال الضفادع من صيد البحر، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه راعي أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر أم صيد بحر؟ فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه. قال القاضي أبو محمد: والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب وقوله تعالى: {واتقوا الله} تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم. اهـ.

.من فوائد الرازي:

صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، فعلى هذا السلحفاة، والسرطان، والضفدع، وطير الماء، كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} المراد بالصيد ما صيد من البحر والمراد جميع المياه العذبة والمالحة.
فأما طعامه.
فاختلفوا فيه فقيل: هو ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل يروى ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأبي أيوب وقتادة وقيل: صيد البحر طريه وطعامه مالحه.
يروى ذلك عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي.